الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)} لمّا أعلن إبراهيم عليه السلام معتَقَده لقومه أخذوا في محاجّته، فجملة {وحاجَّة} عطف على جملة {إنِّي وجَّهْتُ وجهِي للذي فطر السماوات والأرض} [الأنعام: 79]. وعطفت الجملة بالواو دون الفاء لتكون مستقلَّة بالإخبار بمضمونها مع أنّ تفرّع مضمونها على ما قبلها معلوم من سياق الكلام. والمحاجَّة مفاعلة متصرّفة من الحُجَّة، وهي الدّليل المؤيّد للدعوى. ولا يعرف لهذه المفاعلة فعْل مجرّد بمعنى استدلّ بحجّة، وإنَّما المعروف فِعْل حَجّ إذا غَلب في الحُجَّة، فإن كانت احتجاجاً من الجانبين فهي حقيقة وهو الأصل، وإن كانت من جانب واحد باعتبار أنّ محاول الغَلَب في الحجَّة لا بدّ أن يتلقَّى من خصمه ما يرُدّ احتجاجه فتحصل المحاولة من الجانبين، فبذلك الاعتبار أطلق على الاحتجاج محاجَّة، أو المفاعلة فيه للمبالغة. والأوْلى حملها هنا على الحقيقة بأن يكون المعنى حصول محاجَّة بينهم وبين إبراهيم. وذكر الشيخ ابن عرفة في درس تفسيره: أنّ صيغة المفاعلة تقتضي أنّ المجعول فيها فاعلاً هو البادئ بالمحاجَّة، وأنّ بعض العلماء استشكل قوله تعالى في سورة [البقرة: 258] {ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيمَ في ربِّه} حيث قال: {إذ قال إبراهيم ربّي الذي يحيي ويميت} [البقرة: 258]. فبدأ بكلام إبراهيم وهو مفعول الفعل وأجاب بأنّ إبراهيم بدأ بالمقاولة ونمروذ بدأ المحاجَّة. ولم يذكر أئمَّة اللّغة هذا القيد في استعمال صيغة المفاعلة. ويجوز أن يكون المراد هنا أنَّهم سلكوا معه طريق الحجَّة على صحَّة دينهم أو على إبطال معتقده وهو يسمع، فجعل سماعه كلامهم بمنزلة جواب منه فأطلق على ذلك كلمة المحاجَّة. وأبهم احتجاجهم هنا إذ لا يتعلَّق به غرض لأنّ الغرض هو الاعتبار بثبات إبراهيم على الحقّ. وحذف متعلّق {حاجّة} لدلالة المقام، ودلالة ما بعده عليه من قوله: {أتحاجّوني في الله} الآيات. وقد ذكرت حججهم في مواضع في القرآن، منها قوله في سورة [الأنبياء: 52 56] {إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين إلى قوله وأنا على ذلكم من الشاهدين}، وقوله في سورة [الشعراء: 72، 73] {قال هل يَسْمعونكم إذْ تدعون أو ينفعونكم أو يضُرّون الآيات} وفي سورة [الصافات: 85 98] {إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون إلى قوله فجعلناهم الأسفلين} وكلّها محاجَّة حقيقيّة، ويدخل في المحاجّة ما ليس بحجَّة ولكنَّه ممّا يرونه حججاً بأن خوّفُوه غضب آلهتهم، كما يدلّ عليه قوله: ولا أخاف ما تشركون به} الآية. والتقدير: وحاجّه قومه فقالوا: كيت وكيت. وجملة {قال أتحاجّوني في الله} جوابُ محاجَّتهم، ولذلك فصلت، على طريقة المحاورات كما قدّمناه في قوله تعالى: {وإذ قال ربّك للملائكة إنِّي جاعل في الأرض خليفة} في سورة [البقرة: 30]، فإن كانت المحاجَّة على حقيقة المفاعلة فقوله أتحاجّوني} غلق لباب المجادلة وخَتْم لها، وإن كانت المحاجّة مستعملة في الاحتجاج فقوله: {أتحاجّوني} جواب لمحاجّتهم، فيكون كقوله تعالى: {فإن حاجّوك فقل أسلمتُ وجهي لله} [آل عمران: 20]. والاستفهام إنكار عليهم وتأييس من رجوعه إلى معتقدهم. و {في} للظرفية المجازية متعلّقة ب {تحاجّوني} ودخولها على اسم الجلالة على تقدير مضاف، لأنّ المحاجَّة لا تكون في الذّوات، فتعيّن تقدير ما يصلح له المقام وهو صفات الله الدّالَّة على أنَّه واحد، أي في توحيد الله وهذا كقوله تعالى: {يُجَادلُنا في قوم لُوط} [هود: 74] أي في استئصالهم. وجملة {وقد هدانِ} حال مؤكَّدة للإنكار، أي لا جدوى لمحاجَّتكم إيّاي بعد أن هداني الله إلى الحقّ، وشأن الحال المؤكّدة للإنكار أن يكون اتّصاف صاحبها بها معروفاً عند المخاطب. فالظاهر أنّ إبراهيم نزّلهم في خطابه منزلةَ من يعلم أنّ الله هَداه كناية على ظهور دلائل الهداية. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر {أتحاجّوني} بنون واحدة خفيفة وأصله أتحاجّونني بنونين فحذفت إحداهما للتخفيف، والمحذوفة هي الثانية التي هي نون الوقاية على مختار أبي علي الفارسي. قال: لأنّ الأولى نون الإعراب وأمّا الثّانية فهي موطّئة لياء المتكلّم فيجوز حذفها تخفيفاً، كما قالوا: ليْتِي في لَيْتَنِي. وذهب سيبويه أنّ المحذوفة هي الأولى لأنّ الثانية جلبت لتحْمِل الكسرة المناسبة للياء ونون الرفع لا تكون مكسورة، وأيَّاً ما كان فهذا الحذف مستعمل لقصد التخفيف. وعن أبي عمرو بن العلاء: أنّ هذه القراءة لحن، فإن صحّ ذلك عنه فهو مخطئ في زعمه، أو أخْطَأ من عزاه إليه. وقرأه البقية بتشديد النّون لإدغام نون الرفع في نون الوقاية لقصد التخفيف أيضاً، ولذلك تمدّ الواو لتكون المدّة فاصلة بين التقاء الساكنين، لأنّ المدّة خفّة وهذا الالتقاءُ هو الذي يدعونه التقاء الساكنين على حَدّه. وحذفت ياء المتكلّم في قوله {وقد هدانِ} للتخفيف وصلاً ووقفاً في قراءة نافع من رواية قالون، وفي الوقف فقط في قراءة بعض العشرة. وقد تقدّم في قوله تعالى: {أجيب دعوة الداعي إذا دَعَانِ} [البقرة: 186]. وقوله: {ولا أخاف ما تشركون به} معطوف على {أتحاجّوني} فتكون إخباراً، أو على جملة {وقد هَدَانِ} فتكون تأكيداً للإنكار. وتأكيدُ الإنكار بها أظهر منه لقوله {وقد هدانِ} لأنّ عدم خوفه من آلهتهم قد ظهرت دلائله عليه. فقومُه إمَّا عالمون به أو منزّلون منزلة العالم، كما تقدّم في قوله: {وقد هدَانِ} وهو يؤذن بأنَّهم حاجّوه في التّوحيد وخوّفوه بطش آلهتهم ومسَّهم إيَّاه بسوء، إذ لا مناسبة بين إنكار محاجَّتهم إيَّاه وبين نفي خوفه من آلهتهم، ولا بين هدى الله إيّاه وبين نفي خوفه آلهتهم، فتعيَّن أنّهم خوّفوه مكر آلهتهم. ونظير ذلك ما حكاه الله عن قوم هود {إنْ نقول إلاّ اعتراك بعضُ آلهتنا بسوء} [هود: 54]. و (ما] من قوله: {ما تشركون به} موصولة ماصْدقها آلهتهم التي جعلوها شركاء لله في الإلهيّة. والضمير في قوله {به} يجوز أن يكون عائداً على اسم الجلالة فتكون الباء لتعدية فعل {تشركون}، وأن يكون عائداً إلى (ما) الموصولة فتكون الباء سببية، أي الأصنام التي بسببها أشركتم. وقوله: {إلاّ أن يشاء ربِّي شيئاً} استثناء ممّا قبله وقد جعله ابن عطية استثناء منقطعاً بمعنى لكنْ. وهو ظاهر كلام الطبري، وهو الأظهر فإنَّه لمّا نفى أن يكون يخاف إضرار آلهتهم وكان ذلك قد يتوهَّم منه السّامعون أنَّه لا يخاف شيئاً استدرك عليه بما دلّ عليه الاستثناءُ المنقطع، أي لكن أخاف مشيئة ربِّي شيئاً ممَّا أخافه، فذلك أخافُه. وفي هذا الاستدراك زيادة نكاية لقومه إذ كان لا يخاف آلهتهم في حين أنَّه يخشى ربَّه المستحقّ للخشية إن كان قومه لا يعترفون بربّ غير آلهتهم على أحد الاحتمالين المتقدّمين. وجعل الزمخشري ومتابعوه الاستثناء متّصلاً مفرّغاً عن مستثنى منه محذوف دلّ عليه الكلام، فقدّره الزمخشري من أوقات، أي لا أخاف ما تشركون به أبداً، لأنّ الفعل المضارع المنفي يتعلّق بالمستقبل على وجه عموم الأزمنة لأنَّه كالنَّكرة المنفية، أي إلاّ وقت مشيئة ربِّي شيئاً أخافه من شركائكم، أي بأنْ يسَلّط ربِّي بعضها عليّ فذلك من قدرة ربِّي بواسطتها لا من قدرتها عليّ. وجوّز أبو البقاء أن يكون المستثنى منه أحوالاً عامّة، أي إلاّ حالَ مشيئة ربِّي شيئاً أخافه منها. وجملة: {وسع ربِّي كلّ شيء علما} استئناف بياني لأنَّه قد يختلج في نفوسهم: كيف يشاء ربّك شيئاً تخافه وأنت تزعم أنَّك قائم بمرضاته ومؤيد لدينه فما هذا إلاّ شكّ في أمرك، فلذلك فُصلت، أي إنَّما لم آمن إرادة الله بي ضُرّا وإن كنت عبده وناصر دينه لأنَّه أعلم بحكمة إلحاق الضرّ. أو النفع بمن يشاء من عباده. وهذا مقام أدب مع الله تعالى {فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون} [الأعراف: 99]. وجملة {أفلا تتذكَّرون} معطوفة على جملة {أتحاجّوني في الله وقد هَدانِ}. وقُدّمت همزة الاستفهام على فاء العطف. والاستفهام إنكار لعدم تذّكرهم مع وضوح دلائل التذكّر. والمراد التذكّر في صفات آلهتهم المنافية لمقام الإلهية، وفي صفات الإله الحقّ التي دلَّت عليها مصنوعاته.
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)} عُطفت جملة {وكيف أخاف} على جملة: {ولا أخاف ما تشركون به} [الأنعام: 80] ليبيّن لهم أنّ عدم خوفه من آلهتهم أقلّ عجباً من عدم خوفهم من الله تعالى، وهذا يؤذن بأنّ قومه كانوا يعرفون الله وأنَّهم أشركوا معه في الإلهية غيره فلذلك احتجّ عليهم بأنّهم أشركوا بربّهم المعتَرف به دون أن يُنَزّل عليهم سلطاناً بذلك. و {كيف} استفهام إنكاري، لأنَّهم دعَوه إلى أن يخاف بأس الآلهة فأنكر هو عليهم ذلك وقلب عليهم الحجَّة، فأنكر عليهم أنَّهم لم يخافوا الله حين أشركوا به غيره بدون دليل نصبه لهم فجَمَعَت (كيف) الإنكارَ على الأمرين. قالوا وفي قوله: {ولا تخافون أنَّكم أشركتم} يجوز أن تكون عاطفة على جملة: {أخاف ما أشركتم} فيدخل كلتاهما في حكم الإنكار، فخوفُه من آلهتهم مُنكر، وعدم خوفهم من الله منكر. ويجوز أن تكون الواو للحال فيكون محلّ الإنكار هو دعوتَهم إيّاه إلى الخوف من آلهتهم في حال إعراضهم عن الخوف ممَّن هو أعظم سلطاناً وأشدّ بطشاً، فتفيد (كيف) مع الإنكار معنى التعجيب على نحو قوله تعالى: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم} [البقرة: 44]. ولا يقتضي ذلك أنّ تخويفهم إيَّاه من أصنامهم لا ينكَر عليهم إلاّ في حال إعراضهم عن الخوف من الله لأنّ المقصود على هذا إنكار تحميق ومقابلة حال بحال، لا بيان ما هو منكر وما ليس بمنكر، بقرينة قوله في آخره {فأي الفريقين أحقّ بالأمن}. وهذا الوجه أبلغ. و {ومَا أشركتُم} موصولة والعائد محذوف، أي ما أشركتُم به. حذف لدلالة قوله: {ولا أخاف ما تشركون به} [الأنعام:] عليه، والموصول في محلّ المفعول (به)، ل {ما أشركتم}. وفي قوله: {أنَّكم أشركتم} حُذفت (من) المتعلِّقة ب {تخافون} لاطِّراد حذف الجارّ مع (أنّ)، أي من إشراككم، ولم يقل: ولا تخافون الله، لأنّ القوم كانوا يعرفون الله ويخافونه ولكنَّهم لم يخافوا الإشراك به. {وما لم ينزّل به عليكم سلطاناً} موصول مع صلته مفعول {أنَّكم أشركتم}. ومعنى {لم يُنزّل به عليكم} لم يخبركم بإلهية الأصنام التي عبدتموها ولم يأمركم بعبادتها خبَراً تعلمون أنَّه من عنده فلذلك استعار لذلك الخبر التنزيل تشبيهاً لعظم قدره بالرفعة، ولبلوغه إلى من هم دون المخبِر، بنزول الشيء العالي إلى أسفلَ منه. والسلطان: الحجّة لأنَّها تتسلَّط على نفس المخاصم، أي لم يأتكم خبر منه تجعلونه حجَّة على صحَّة عبادتكم الأصنام. والفاء في قوله: {فأي الفريقين} تفريع على الإنكار، والتعجيب فَرع عليهما استفهاماً ملجئاً إلى الاعتراف بأنَّهم أوْلى بالخوف من الله من إبراهيم من آلهتهم. والاستفهام ب {أيّ} للتقرير بأنّ فريقه هو وحده أحقّ بالأمن. والفريق: الطائفة الكثيرة من النّاس المتميِّزة عن غيرها بشيء يجمعها من نسب أو مكان أو غيرهما، مشتقّ من فَرَق إذا ميّز. والفِرْقَة أقلّ من الفريق، وأراد بالفريقين هنا قومه ونفسه، فأطلق على نفسه الفريق تغليباً، أو أراد نفسه ومن تبعه إن كان له أتباع ساعتئذٍ، قال تعالى: {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26]، أو أراد من سيوجد من أتباع ملَّته، كما يناسب قوله {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82]. والتعريف في {الأمن} للجنس، وهو ضدّ الخوف، وجملة {إن كنتم تعلمون} مستأنفة ابتدائية، وجواب شرطها محذوف دلّ عليه الاستفهام، تقديره: فأجيبوني، وفيه استحثاث على الجواب.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} هذه الجملة من حكاية كلام إبراهيم على ما ذهب إليه جمهور المفسِّرين فيكون جواباً منه عن قوله: {فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن} [الأنعام: 81]. تولّى جوابَ استفهامه بنفسه ولم ينتظر جوابهم لكون الجواب ممَّا لا يسع المسؤول إلاّ أن يجيب بمثله، وهو تبكيت لهم. قال ابن عبَّاس: كما يسأل العالم ويُجيبُ نفسه بنفسه، أي بقوله: «فإن قلتَ قلتُ». وقد تقدّمت نظائره في هذه السورة. وقيل: ليس ذلك من حكاية كلام إبراهيم، وقد انتهى قول إبراهيم عند قوله {إن كنتم تعلمون} [الأنعام: 81] بل هو كلام مستأنف من الله تعالى لابتداء حكم، فتكون الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تصديقاً لقول إبراهيم. وقيل: هو حكاية لكلام صدر من قوم إبراهيم جواباً عن سؤال إبراهيم {فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن} [الأنعام: 81]. ولا يصحّ لأنّ الشأن في ذلك أن يقال: قال الذين آمنوا الخ، ولأنَّه لو كان من قول قومه لما استمرّ بهم الضلال والمكابرة إلى حدّ أن ألقَوا إبراهيم في النّار. وحذف متعلّق فعل {آمنوا} لظهوره من الكلام السابق. والتقدير: الذين آمنوا بالله. وحقيقة {يلبسوا} يخلطوا، وهو هنا مجاز في العمل بشيئين متشابهين في وقت واحد. شبّه بخلط الأجسام كما في قوله: {ولا تلبسوا الحقّ بالباطل} [البقرة: 42]. والظّلم: الاعتداء على حقّ صاحب حقّ، والمراد به هنا إشراك غير الله مع الله في اعتقاد الإلهية وفي العبادة، قال تعالى: {إنّ الشِّرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] لأنَّه أكبر الاعتداء، إذ هو اعتداء على المستحقّ المطلق العظيم، لأنّ من حقّه أن يفرد بالعبادة اعتقاداً وعملاً وقولاً لأنّ ذلك حقّه على مخلوقاته. ففي الحديث " حقّ العباد على الله أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً " وقد ورد تفسير الظلم في هذه الآية بالشرك. في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود " لمّا نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} شَقّ ذلك على المسلمين وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه " فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس كما تَظُنّون إنَّما هو كما قال لقمان لابنه: {إنّ الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] اه. " وذلك أنّ الشرك جمع بين الاعتراف لله بالإلهية والاعتراف لغيره بالربوبيّة أيضاً. ولمَّا كان الاعتراف لغيره ظلماً كان إيمانهم بالله مخلوطاً بظلم وهو إيمانهم بغيره، وحَمله على هذا المعنى هو الملائم لاستعارة اسم الخَلط لهذا المعنى لأنّ الإيمان بالله وإشراكَ غيره في ذلك كلاهما من جنس واحد وهو اعتقاد الربوبيّة فهما متماثلان، وذلك أظهر في وجه الشبه، لأنّ شأن الأجسام المتماثلة أن يكون اختلاطها أشدّ فإنّ التَّشابُه أقوى أحوال التّشبيه عند أهل البيان. والمعنى الذين آمنوا بالله ولم يشركوا به غيره في العبادة. وحَمَل الزمخشري الظلم على ما يشمل المعاصي، لأنّ المعصية ظلم للنَّفس كما في قوله تعالى: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} [التوبة: 36] تأويلاً للآية على أصول الاعتزال لأنّ العاصي غير آمن من الخلود في النّار فهو مساو للكافر في ذلك عندهم، مع أنَّه جَعَل قوله: {الذين آمنوا ولم يلبسوا} إلى آخره من كلام إبراهيم، وهو إن كان محكيّاً من كلام إبراهيم لا يصحّ تفسير الظلم منه بالمعصية إذ لم يكن إبراهيم حينئذٍ داعياً إلاّ للتَّوحيد ولم تكن له بعدُ شريعة، وإن كان غير محكي من كلامه فلا يناسب تفسيره فيه بالمعصية، لأنّ تعقيب كلام إبراهيم به مقصود منه تأييد قوله وتبيينُه، فالحقّ أنّ الآية غير محتاجة للتّأويل على أصولهم نظراً لهذا الذي ذكرناه. والإشارة بقوله: {أولئك لهم الأمن} للتنبيه على أنّ المسند إليه جدير بالمسند من أجل ما تقدّم من أوصاف المسند إليه وهذا كقوله {أولئك على هدى من ربّهم} [البقرة: 5]. وقوله {لهم الأمْن} أشارت اللاّم إلى أنّ الأمن مختصّ بهم وثابت، وهو أبلغ من أن يُقال: آمنون. والمراد الأمن من عذاب الدنيا بالاستئصال ونحوه وما عُذّبت به الأمم الجاحدة، ومِن عذاب الآخرة إذ لم يكن مطلوباً منهم حينئذٍ إلاّ التوّحيد. والتّعريف في {الأمن} تعريف الجنس، وهو الأمن المتقدّم ذكره، لأنَّه جنس واحد، وليس التّعريف تعريف العهد حتَّى يجيء فيه قولهم: إنّ المعرفة إذا أعيدت معرفة فالثّانية عين الأولى إذ لا يحتمل هنا غير ذلك. وقوله: {وهم مهتدون} معطوف على قوله: {لهم الأمن} عطفَ جزء جملة على الجملة التي هي في حكم المفرد، فيكون {مهتدون} خبراً ثانياً عن اسم الإشارة عُطف عليه بالواو على إحدى الطريقتين في الأخبار المتكرّرة. والضمير للفصل ليفيد قصر المسند على المسند إليه، أي الاهتداء مقصور على الذين آمنوا ولم يلبِسوا إيمانهم بظلم دون غيرهم، أي أنّ غيرهم ليسوا بمهتدين، على طريقة قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} [البقرة: 55] وقوله: {ألم يعلموا أنّ الله هو يقبل التّوبة عن عباده} [التوبة: 104]. وفيه إشارة إلى أنّ المخبَر عنهم لمَّا نَبذوا الشِّرك فقد اهتدوا. ويجوز أن يكون قوله: {وهم مهتدون} جملة، بأنْ يكونَ ضمير الجمع مبتدأ و{مهتدون} خبره، والجملة معطوفة على جملة {أولئك لهم الأمن}، فيكون خبراً ثانياً عن اسم الموصول، ويكون ذكر ضمير الجمع لأجل حُسن العطف لأنَّه لمّا كان المعطوف عليه جملة اسميّة لم يحسن أن يعطف عليه مفرد في معنى الفعل، إذ لا يحسن أن يقال: أولئك لهم الأمن ومهتدون؛ فصيغ المعطوف في صورة الجملة. وحينئذٍ فالضمير لا يفيد اختصاصاً إذ لم يؤت به للفصل، وهذا النظم نظير قوله تعالى: {له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير} [التغابن: 1] وقوله: تعالى: {له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير} [الحديد: 2] على اعتبار {وهو على كلّ شيء قدير} عطفاً على {له مُلك السماوات والأرض} وما بينهما حال، وهذا من محسِّنات الوصل كما عُرف في البلاغة، وهو من بدائع نظم الكلام العربي.
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)} عطف على جملة {وحاجّه قومه} [الأنعام: 80]. و{تلك} إشارة إلى جميع ما تكلّم به إبراهيم في محاجَّة قومه، وأتي باسم إشارة المؤنّث لأنّ المشار إليه حجّة فأخبر عنه بحجّة فلمَّا لم يكن ثمَّة مشار إليه محسوس تعيّن أن يعتبر في الإشارة لفظ الخبر لا غير، كقوله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253]. وإضافة الحجّة إلى اسم الجلالة للتّنويه بشأنها وصحَّتها. و {آتيناها} في موضع الحال من اسم الإشارة أو من الخبر. وحقيقة الإيتاء الإعطاء، فحقَّه أن يتعدّى إلى الذّوات، ويكون بمناولة اليد إلى اليد. قال تعالى: {وآتى المال على حبّه ذوي القربى} [البقرة: 177]، ولذلك يقال: اليدُ العليا هي المعطية واليد السّفلى هي المعطاة. ويستعمل مجازاً شائعاً في تعليم العلوم وإفادة الآداب الصالحة وتخويلها وتعيينها لأحد دون مناولة يد سواء كانت الأمور الممنوحة ذواتاً أم معانيَ. يقال: آتاه الله مالاً، ويقال: آتاه الخليفة إمارة و{آتاه الله المُلك} [البقرة: 258]، {وآتيناه الحكمة} [ص: 20]. فإيتاء الحجّة إلهامُه إيّاها وإلقاءُ ما يعبِّر عنها في نفسه. وهو فضل من الله على إبراهيم إذ نصره على مناظريه. و {على} للاستعلاء المجازي، وهو تشبيه الغالب بالمستعلي المتمكّن من المغلوب، وهي متعلّقة {بحجّتنا} خلافاً لمن منعه. يقال: هذا حجّة عليك وشاهد عليك، أي تلك حجّتنا على قومه أقحمناهم بها بواسطة إبراهيم، ويجوز أن يتعلَّق ب {آتيناها} لمّا يتضمّنه الإيتاء من معنى النصر. وجملة: {نرفع درجات من نشاء} حال من ضمير الرفع في {آتيناها} أو مستأنفة لبيان أنّ مثل هذا الإيتاء تفضيل للمؤتَى وتكرمة له. ورفع الدّرجات تمثيل لتفضيل الشأن، شبّهت حالة المفضّل على غيره بحال المرتقي في سُلَّم إذا ارتفع من درجة إلى درجة، وفي جميعها رفع، وكلّ أجزاء هذا التمثيل صالح لاعتبار تفريق التّشبيه، فالتّفضيل يُشبه الرّفع، والفضائل المتفاوتة تشبه الدّرجات، ووجه الشّبه عِزّة حصول ذلك لغالب النّاس. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، بإضافة {درجات} إلى {مَنْ}. فإضافة الدرجات إلى اسم الموصول باعتبار ملابسة المرتقي في الدرجة لها لأنّها إنّما تضاف إليه إذا كان مرتقياً عليها، والإتيان بصيغة الجمع في {درجات} باعتبار صلاحيّة {من نشاء} لأفراد كثيرين متفاوتين في الرفعة، ودلّ فعل المشيئة على أنّ التفاضل بينهم بكثرة موجبات التّفضيل، أو الجمعُ باعتبار أنّ المفضّل الواحد يتفاوت حاله في تزايد موجبات فضله. وقرأه البقية بتنوين {درجات}، فيكون تمييزاً لنسبة الرفع باعتبار كون الرفع مجازاً في التفضيل. والدرجات مجازاً في الفضائل المتفاوتة. ودلّ قوله {مَن نشاء} على أنّ هذا التّكريم لا يكون لكلّ أحد لأنّه لو كان حاصلاً لكلّ النّاس لم يحصل الرفع ولا التفضيل. وجملة: {إنّ ربّك حكيم عليم} مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأنّ قوله: {نرفع درجات من نشاء} يثير سؤالاً، يقول: لماذا يرفع بعض النّاس دون بعض، فأجيب بأنّ الله يعلم مستحقّ ذلك ومقدار استحقاقه ويخلق ذلك على حسب تعلّق علمه. فحكيم بمعنى محكم، أي متّقن للخلق والتّقدير. وقدم {حكيم} على {عليم} لأنّ هذا التّفضيل مَظهر للحكمة ثمّ عقّب ب {عليم} ليشير إلى أنّ ذلك الإحكام جار على وفق العلم.
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)} جملة {ووهبنا} عطف على جملة {آتيناها} [الأنعام: 83] لأنّ مضمونها تكرمة وتفضيل. وموقع هذه الجملة وإن كانت معطوفة هو موقع التذييل للجمل المقصود منها إبطال الشرك وإقامةُ الحجج على فساده وعلى أنّ الصالحين كلّهم كانوا على خلافه. والوَهْب والهِبة: إعطاء شيء بلا عوض، وهو هنا مجاز في التّفضّل والتّيسير. ومعنى هبة يعقوب لإبراهيم أنّه وُلد لابنه إسحاق في حياة إبراهيم وكبر وتزوّج في حياته فكان قرّة عين لإبراهيم. وقد مضت ترجمة إبراهيم عليه السلام عند قوله تعالى: {وإذْ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات} [البقرة: 124]. وترجمةُ إسحاق، ويعقوب، عند قوله تعالى: {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} [البقرة: 132] وقوله: {وإله آبائك إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاق} [البقرة: 133] كلّ ذلك في سورة البقرة. وقوله: {كلاّ هدينا} اعتراض، أي كلّ هؤلاء هديناهم يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فحذف المضاف إليه لظهوره وعوض عنه التّنوين في «كلّ» تنوينَ عوض عن المضاف إليه كما هو المختار. وفائدة ذكر هديهما التّنويه بإسحاق ويعقوب، وأنّهما نبيئان نالا هدى الله كهَدْيه إبراهيم، وفيه أيضاً إبطال للشرك، ودمغ، لقريش ومشركي العرب، وتسفيه لهم بإثبات أنّ الصالحين المشهورين كانوا على ضدّ معتقدهم كما سيصرّح به في قوله: {ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} (الأعراف: 88. ( وجملة: {ونوحاً هدينا من قبل} عطف على الاعتراض، أي وهدينا نوحاً من قبلهم. وهذا استطراد بذكر بعض من أنعم الله عليهم بالهدى، وإشارة إلى أنّ الهدى هو الأصل، ومن أعظم الهدى التّوحيد كما علمت. وانتصب {نوحاً} على أنّه مفعول مقدّم على {هدينا} للاهتمام، و{من قبل} حال من {نوحا}. وفائدة ذكر هذا الحال التّنبيه على أنّ الهداية متأصّلة في أصول إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وبُني {قبل} على الضمّ، على ما هو المعروف في (قبلُ) وأخواتتِ غيرٍ من حذف ما يضاف إليه قبلُ وينوى معناه دون لفظه. وتقدمت ترجمة نوح عند قوله تعالى: {إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً} في سورة آل عمران (33. (وقوله: {من ذرّيته} حال من داوود، و{داود} مفعول (هدينا) محذوفاً. وفائدة هذا الحال التّنويه بهؤلاء المعدودين بشرف أصلهم وبأصل فضلهم، والتّنويه بإبراهيم أو بنوح بفضائل ذرّيّته. والضمير المضاف إليه عائد إلى نوح لا إلى إبراهيم لأنّ نوحاً أقرب مذكور، ولأنّ لوطاً من ذرّية نوح، وليس من ذرية إبراهيم حسبما جاء في كتاب التّوراة. ويجوز أن يكون لوط عومل معاملة ذرّيّة إبراهيم لشدّة اتّصاله به. كما يجوز أن يجعل ذكر اسمه بعد انتهاء أسماء من هم من ذرّيّة إبراهيم منصوباً على المدح بتقدير فعللٍ لا على العَطف. وداود تقدّم شيء من ترجمته عند قوله تعالى: {وقَتل داودُ جالوتَ} في سورة البقرة (251). ونكمّلها هنا بأنّه داود بن يِسيِّ من سبط يهوذا من بني إسرائيل. ولد بقرية بيت لحم سنة1085 قبل المسيح، وتوفّي في أورشليم سنة 1015. وكان في شبابه راعياً لغنم أبيه. وله معرفة النغَم والعزف والرمي بالمقلاع. فأوحى الله إلى (شمويل) نبيء بني إسرائيل أنْ يبارك داودَ بن يسيّ، ويمسحه بالزيت المقدّس ليكون ملكاً على بني إسرائيل، على حسب تقاليد بني إسرائيل إنباء بأنّه سيصير ملكاً على إسرائيل بعد موت (شاول) الذي غضب الله عليه. فلمّا مسحه (شمويل) في قرية بيت لحم دُون أن يعلم أحد خطر لشاول، وكان مريضاً، أن يتّخذ من يضرب له بالعود عندما يعتاده المرض، فصادف أن اختاروا له داود فألحقه بأهل مجلسه ليسمع أنغامه. ولما حارب جنُدُ (شاول) الكنعانيين كما تقدّم في سورة البقرة، كان النصر للإسرائيليين بسبب داود إذ رمى البطل الفلسطيني (جالوت) بمقلاعه بين عينيه فصرعه وقطع رأسه، فلذلك صاهره (شاولُ) بابنته (ميكال)، ثم أن (شاول) تغيّر على داود، فخرج داود إلى بلاد الفلسطينيين وجمع جماعة تحت قيادته، ولما قُتل (شاول) سنة1055 بايعت طائفة من الجند الإسرائيلي في فلسطين داودَ ملكاً عليهم. وجعل مقرّ ملكه (حَبْرُون)، وبعد سبع سنين قُتل ملك إسرائيل الذي خلف شاولَ فبايعت الإسرائيليون كلّهم داود ملكاً عليهم، ورجع إلى أورشليم، وآتاه الله النّبوءة وأمره بكتابة الزبور المسمّى عند اليهود بالمزامير. وسليمان تقدّمت ترجمته عند قوله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} في سورة البقرة (102. (وأيّوب نبيء أثبت القرآنُ نبوءته. وله قصّة مفصّلة في الكتاب المعروف بكتاب أيّوب، من جملة كتب اليهود. ويظُنّ بعض المؤرّخين أنّ أيّوب من ذرّيّة (ناحور) أخي إبراهيم. وبعضهم ظنّ أنّه ابن حفيد عيسو بننِ إسحاق بننِ إبراهيم، وفي كتابه أنّ أيّوب كان ساكناً بأرض عُوص (وهي أرض حَوران بالشّام، وهي منازل بني عوص بن إرَم بن سام بن نوح، وهم أصول عاد) وكانت مجاورة لحدود بلاد الكلدان، وقد ورد ذكر الكلدان في كتاب أيّوب وبعض المحقّقين يظنّ أنّه من صنف عَربي وأنّه من عُوص، كما يدلّ عليه عدم التّعرض لنسبته في كتابه، والاقتصار على أنّه كان بأرض عوص (الذين هم من العرب العاربة). وزعموا أنّ كلامه المسطور في كتابه كان بلغة عربيّة، وأنّ موسى عليه السلام نقله إلى العبرانيّة. وبعضهم يظنّ أنّ الكلام المنسوب إليه كان شِعراً ترجمه موسى في كتابه وأنّه أوّل شعر عرف باللّغة العربيّة الأصليّة. وبعضهم يقول: هو أوّل شعر عرفه التّاريخ، ذلك لأنّ كلامه وكلام أصحابه الثّلاثة الّذين عَزّوه على مصائبه جَارٍ على طريقة شعريّة لا محالة. ويوسف هو ابن يعقوب ويأتي تفصيل ترجمته في سورة يوسف. وموسى وهارون وزكرياء تقدّمت تراجمهم في سورة البقرة. وترجمة عيسى تقدّمت في سورة البقرة وفي سورة آل عمران. ويحيى تقدّمت ترجمته في آل عمران. وقوله: وكذلك نجزي المحسنين} اعتراض بين المتعاطفات، والواو للحال، أي وكذلك الوهْب الّذي وهبنا لإبراهيم والهدي الّذي هدينا ذرّيّته نجزي المحسنين مثله، أو وكذلك الهدي الّذي هدينا ذرّيّة نوح نجزي المحسنين مثل نوح، فعلم أنّ نوحاً أو إبراهيم من المحسنين بطريق الكناية، فأمّا إحسان نوح فيكون مستفاداً من هذا الاعتراض، وأمّا إحسان إبراهيم فهو مستفاد ممّا أخبر الله به عنه من دعوته قومه وبذله كلّ الوسع لإقلاعهم عن ضلالهم. ويجوز أن تكون الإشارة هنا إلى الهدي المأخوذ من قوله: {هدينا} الأول والثّاني، أي وكذلك الهدي العظيم نجزي المحسنين، أي بمثله، فيكون المراد بالمحسنين أولئك المهديّين من ذرّيّة نوح أو من ذرّيّة إبراهيم. فالمعنى أنّهم أحسنوا فكان جزاء إحسانهم أن جعلناهم أنبياء. وأمّا إلياس فهو المعروف في كتب الإسرائيليّين باسم إيليا، ويسمّى في بلاد العرب باسم إلياس أو (مَار إلياس) وهو إلياس التشبي. وذكر المفسّرون أنّه إلياس بن فنحاص بن إلعاز، أو ابن هارون أخي موسى فيكون من سبط لاوي. كان موجوداً في زمن الملك (آخاب) ملك إسرائيل في حدود سنة ثمان عشرة وتسعمائة قبل المسيح. وهو إسرائيلي من سكان (جِلْعاد) بكسر الجيم وسكون اللاّم صقع جبلي في شرق الأرْدُن ومنه بَعْلبك. وكان إلياس من سبط روبين أو من سبط جَاد. وهذان السّبطان هما سكّان صقع جِلْعاد، ويقال لإلياس في كتب اليهود التشبي، وقد أرسله الله تعالى إلى بني إسرائيل لمّا عبدوا الأوثان في زمن الملك (آخاب) وعبدوا (بَعْل) صنم الكنعانيّين. وقد وعظهم إلياس وله أخبار معهم. أمره الله أن يجعل اليسع خليفة له في النّبوءة، ثمّ رفع الله إلياس في عاصفة إلى السّماء فلم يُر له أثر بعدُ، وخلفه اليسع في النّبوءة في زمن الملك (تهورام) بن (آخاب) ملك إسرائيل. وقوله: {كلّ من الصّالحين} اعتراض. والتّنوين في كلّ عوض عن المضاف إليه، أي كلّ هؤلاء المعدودين وهو يشمل جميع المذكورين إسحَاقَ ومن بعده. وأمّا إسماعيل فقد تقدّمت ترجمته في سورة البقرة. واليسع اسمه بالعبرانيّة إليشع بهمزة قطع مكسورة ولام بعدها تحتيّة ثمّ شين معجمة وعين وتعريبه في العربيّة اليسع بهزة وصل ولام ساكنة في أوّله بعدها تحتيّة مفتوحة في قراءة الجمهور. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف «اللَّيْسَع» بهمزة وصل وفتح اللاّم مشدّدة بعدها تحتيّة ساكنة بوزن ضَيْغَم، فهما لغتان فيه. وهو ابن (شافاط) من أهل (آبل محولة). كان فلاّحاً فاصطفاه الله للنّبوءة على يد الرّسول إلياس في مدّة (آخاب) وصحب إلياسَ. ولمّا رفع إلياس لازم سيرة إلياس وظهرت له معجزات لبني إسرائيل في (أريحا) وغيرها. وتوفّي في مدّة الملك (يُوءَاش) ملك إسرائيل وكانت وفاته سنة أربعين وثمانمائة840 قبل المسيح ودفن بالسّامرة. والألف واللاّم في اليسع من أصل الكلمة، ولكن الهمزة عوملت معاملة همزة الوصل للتّخفيف فأشبه الاسم الّذي تدخل عليه اللاّم الّتي للمْححِ الأصللِ مثل العبّاس، وما هي منها. وأمّا يونس فهو ابن متَّى، واسمه في العبرانيّة (يونان بن أمِتَّاي)، وهو من سبط (زَبولُون). ويجوز في نونه في العربيّة الضمّ والفتح والكسر. ولد في بلدة (غاث ايفر) من فلسطين، أرسله الله إلى أهْل (نَيْنوَى) من بلاد أشور. وكان أهلها يومئذٍ خليطاً من الأشوريين واليهود الّذين في أسر الأشوريّين، ولمّا دعاهم إلى الإيمان فأبوا توعّدهم بعذاب فتأخّر العذاب فخرج مغاضِباً وذهب إلى (يافا) فركب سفينة للفنيقيّين لتذهب به إلى ترشيش (مدينة غربي فلسطين إلى غربي صور وهي على البحر ولعلّها من مراسي الوجه البحري من مصر أو من مراسي برقة لأنّه وصف في كتب اليهود أنّ سليمان كان يجلب إليه الذهب والفضّة والقرود والطواويس من ترشيش، فتعيّن أن تكون لترشيش تجارة مع الحبشة أو السّودان، ومنها تصدر هذه المحصولات. وقيل هي طرطوشة من مراسي الأندلس. وقيل (قرطاجنّة) مرسى إفريقيّة قرب تونس. وقد قيل في تواريخنا أنّ تونس كان اسمها قبل الفتح الإسلامي ترشيش. وهذا قريب لأنّ تجارتها مع السّودان قد تكون أقرب) فهال البحر على السّفينة وثقلت وخيف غرقها، فاقترعوا فكان يونس ممّن خاب في القرعة فرُمي في البحر والتقمه حوت عظيم فنادى في جوفه: {لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين} [الأنبياء: 87]، فاستجاب الله له، وقذفه الحوت على الشاطئ. وأرسله الله ثانياً إلى أهل نينوى وآمنوا وكانوا يزيدون على مائة ألف. وكانت مدّته في أوّل القرن الثامن قبل الميلاد. ولم نقف على ضبط وفاته. وذكر ابن العربي في «الأحكام» في سورة الصافات أنّ قبره بقرية جلجون بين القدس وبلد الخليل، وأنّه وقف عليه في رحلته. وستأتي أخبار يونس في سورة يونس وسورة الأنبياء وسورة الصافات. وأمّا لوط فهو ابن هَارَان بن تارح، فهو ابن أخي إبراهيم. ولد في (أور الكلدانيين). ومات أبوه قبل تارح، فاتّخذ تارحُ لوطاً في كفالته. ولمّا مات تارح كان لوط مع إبراهيم ساكنيْن في أرض حاران (حوران) بعد أن خرج تارحُ أبُو إبراهيم من أور الكلدانيّين قاصدين أرض كنعان. وهاجر إبراهيم مع لوط إلى مصر لقحط أصاب بلاد كنعان، ثمّ رجعا إلى بلاد كنعان، وافترق إبراهيم ولوط بسبب خصام وقع بين رُعاتهما، فارتحل لوط إلى (سَدُوم)، وهي من شَرق الأرْدُن إلى أن أوحي إليه بالخروج منها حين قدّر الله خسفها عقاباً لأهلها فخرج إلى (صوغر) مع ابنته ونسله هناك، وهم (المؤابيون) و(بنو عمون). وقوله: {وكلاّ فضّلنا على العالمين} جملة معترضة، والواو اعتراضيّة، والتّنوين عوض عن المضاف إليه، أي كلّ أولئك المذكورين من إسحاق إلى هنا. و (كلّ) يقتضي استغراق ما أضيف إليه. وحكم الاستغراق أن يثبت الحكم لكلّ فرد فرد لا للمجموع. والمراد تفضيل كلّ واحد منهم على العالمين من أهل عصره عدا من كان أفضلَ منه أو مساوياً له، فاللاّم في {العالمين} للاستغراق العرفي، فقد كان لوط في عصر إبراهيم وإبراهيم أفضلُ منه. وكان من غيرهما من كانوا في عصر واحد ولا يعرف فضل أحدهم على الآخر. وقال عبد الجبّار: يمكن أن يقال: المراد وكلّ من الأنبياء يُفضّلون على كلّ مَن سواهم من العالمين. ثمّ الكلام بعد ذلك في أنّ أي الأنبياء أفضل من الآخر كلام في غرض آخر لا تعلّق له بالأوّل اه. ولا يستقيم لأنّ مقتضى حكم الاستغراق الحكم على كلّ فردٍ فردٍ. وتتعلّق بهذه الآية مسألة مهمّة من مسائِل أصول الدّين. وهي ثبوت نبوءة الّذين جرى ذكر أسمائهم فيها، وما يترتّب على ثبوت ذلك من أحكام في الإيمان وحقّ النّبوءة. وقد أعرض عن ذكرها المفسّرون وكان ينبغي التّعرّض لها لأنَّها تتفرّع إلى مسائل تهمّ طالب العلوم الإسلاميّة مَعرفتُها، وأحقّ مظِنّة بذكرها هو هذه الآية وما هو بمعنى بعضها. فأمّا ثبوت نبوءة الّذين ذُكرت أسماؤهم فيها فلأنّ الله تعالى قال بعد أن عدّ أسماءهم {أولئك الّذين آتيناهم الكِتاب والحُكم والنّبوءة}. فثبوت النّبوءة لهم أمر متقرّر لأنّ اسم إشارة {أولئك} قريب من النصّ في عوده إلى جميع المسمَّيْنَ قبله مع ما يعضّده ويكمّله من النصّ بنبوءة بعضهم في آيات تماثِل هذه الآية، مثل آية سورة النّساء (163) {إنَّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح} الآيات، ومثل الآيات من سورة مريم (41) واذكر في الكتاب إبراهيم الآيات. وللنّبوءة أحكام كثيرة تتعلّق بموصوفها وبمعاملة المسلمين لمن يتّصف بها. منها معنى النّبيء والرّسوللِ، ومعنى المعجزة الّتي هي دليلُ تحقّق النّبوءة أو الرّسالة لمن أتى بها، وما يترتّب على ذلك من وجوب الإيمان بما يبلّغه عن الله تعالى من شرع وآداب، ومَسائلُ كثيرة من ذلك مبسوطة في علم الكلام فليرجع إليها. إنّما الّذي يهمّنا من ذلك في هذا التّفسير هو ما أومأ به قوله تعالى في آخرها {فإنْ يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين} [الأنعام: 89]. فمن علم هذه الآيات في هذه السّورة وكان عالماً بمعناها وجب عليه الإيمان بنبوءة من جَرت أسماؤهم فيها. وقد ذكر علماؤنا أنّ الإيمان بأنّ الله أرْسَلَ رسلاً وَنَبَّأ أنبياء لإرشاد النّاس واجب على الجملة، أيْ إيماناً بإرسال أفرادٍ غير معيّنين، أو بنبوءة أفراد غير معيّنين دون تعيين شخص معيَّن باسمه ولا غير ذلك ممّا يميّزه عن غيره إلاّ محمّداً صلى الله عليه وسلم قال الشيخ أبو محمّد بن أبي زيد في «الرسالة» «الباعثثِ (صفة لله تعالى) الرسللِ إليهم لإقامة الحجّة عليهم». فإرسال الرسل جائز في حقّ الله غير واجب، وهو واقع على الإجمال دون تعيين شخص معيّن. وقد ذكر صاحب»المقاصد» أنّ إرسال الرّسل محتاج إليه، وهو لطف من الله بخلقه وليس واجباً عليه. وقالت المعتزلة وجمع من المتكلمين (أي من أهل السنّة) ممّا وراء النّهر بوجوب إرسال الرّسل عليه تعالى. ولم يذكر أحد من أيمّتنا وجوب الإيمان بنبيء معيّن غير محمدّ صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى الخلق كافّة. قال أبو محمّد بن أبي زيد: «ثُمّ ختَم أي اللّهُ الرّسالةَ والنِّذارةَ والنّبوءةَ بمحمّد نبيئه صلى الله عليه وسلم إلخ»، لأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الّذي رواه عمر بن الخطّاب من سؤال جبريلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: " أن تُؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " إلخ. فلم يعيّن رسلاً مخصوصين. وقال في جواب سؤاله عن الإسلام «الإسلام أن تشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله». فمن علم هذه الآيات وفهم معناها وجب عليه الاعتقاد بنبوءة المذكورين فيها. ولعلّ كثيراً لا يقرأونها وكثيراً ممّن يقرأونها لا يفهمون مدلولاتها حقّ الفهم فلا يطالبون بتطلّب فهمها واعتقاد ما دلّت عليه إذ ليس ذلك من أصول الإيمان والإسلام ولكنّه من التّفقّه في الدّين. قال القاضي عياض في فصللٍ (سابعٍ) من فصول الباب الثّالث من القسم الرّابع من كتاب «الشّفاء» «وهذا كلّه (أي ما ذكره من إلزام الكفر أو الجُرم الموجببِ للعقوبة لمن جاء في حقّهم بما ينافي ما يجب لهم) فيمن تكلّم فيهم (أي الأنبياء أو الملائكة) بما قلناه على جملة الملائكة والنّبيئين (أي على مجموعهم لا على جميعهم قاله الخفاجي يريد بالجميع كلّ فرد فرد) مِمّن حقّقنا كونَه منهم ممّن نصّ الله عليه في كتابه أو حقّقنا عِلمه بالخبر المتواتر والإجماع القاطع والخبرِ المشتهر المتّفق عليه (الواو في هذا التّقسيم بمعنى أو). فأمّا من لم يثبت الإخبار بتعيينه ولا وقَع الإجماع على كونه من الأنبياء كالخِضِر، ولقمانَ، وذي القرنين، ومريم، وآسية (امرأة فرعون) وخالدٍ بن سنان المذكورِ أنّه نبيء أهل الرسّ، فليس الحكم في سابّهم والكافر بهم كالحكم فيما قدّمناه» اه. فإذا علمت هذا علمت أنّ ما وقع في أبيات ثلاثةٍ نظمها البعض، (ذكرها الشّيخ إبراهيم البيجوري في مبحث الإيمان من شرحه على «جوهرة التَّوحيد»: حَتم على كلّ ذي التكليف معرفة *** بأنبياءٍ على التفصيل قد علموا في «تلك حُجّتنا» منهم ثمانية *** من بعد عَشر ويبقَى سبعة وهمُ إدريس. هود. شعيب، صالح وكذا *** ذو الكِفّل، آدم، بالمختار قد ختموا لا يستقيم إلاّ بتكلّف، لأنّ كون معرفة ذلك حتماً يقتضي ظاهره الاصطلاحيّ أنّه واجب، وهذا لا قائل به فإنْ أراد بالحتم الأمرَ الّذي لا ينبغي إهماله كان مُتأكّداً لقوله: على كلّ ذي التّكليف. فلو عوّضه بكلّ ذي التّعليم. ولعلّه أراد بالحتم أنّه يتحتّم على من علم ذلك عدمُ إنكار كوننِ هؤلاء أنبياءَ بالتّعيين، ولكن شاء بين وجوب معرفة شيء وبين منع إنكاره بعد أن يُعرف. فأمّا رسالة هود وصالح وشعيب فقد تكرّر ذكرها في آيات كثيرة. وأمّا معرفة نبوءة ذي الكفل ففيها نظر إذ لم يصرّح في سورة الأنبياء بأكثر من كونه من الصّابرين والصّالحين. واختلف المفسّرون في عدّه من الأنبياء، ونسب إلى الجمهور القول بأنّه نبيء. وعن أبي موسى الأشعري ومجاهد: أنّ ذا الكفل لم يكن نبيئاً. وسيأتي ذكر ذلك في سورة الأنبياء. وأمّا آدم فإنّه نبيء منذ كونه في الجنّة فقد كلّمه الله غيرَ مرّة. وقال {ثمّ اجتباه ربّه فتاب عليه وهدى} [طه: 122] فهو قد أهبط إلى الأرض مشرّفاً بصفة النّبوءة. وقصّة ابني آدم في سورة المائدة دالّة على أنّ آدم بلّغ لأبنائه شَرعاً لقوله تعالى فيها {إذ قرّبا قرباناً فتُقبّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الآخر قال لأقتلنّك قال إنّما يتقبّل الله من المتّقين لئن بسطتّ إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربّ العالمين إنّي أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النّار وذلك جزاء الظّالمين} (المائدة: 27 29. (فالّذي نعتمده أنّ الّذي ينكر نبوءة معيَّن ممّن سمّي في القرآن في عداد الأنبياء في سورة النّساء وسورة هود وسورة الأنعام وسورة مريم، وكان المنكر محقّقاً علمُه بالآية الّتي وصف فيها بأنّه نبيء ووقف على دليل صحّة ما أنكره وروجع فصمّم على إنكاره، إنّ ذلك الإنكار يكون كفراً لأنّه أنكر معلوماً بالضّرورة بعد التّنبيه عليه لئلاّ يعتذر بجهللٍ أو تأويللٍ مقبول. واعلَمْ أنّي تطلّبت كشف القناع عن وجه الاقتصار على تسمية هؤلاء الأنبياء من بين سائر الأنبياء من ذرّيّة إبراهيم أو ذرّيّة نوح، (على الوجهين في معاد ضمير {ذرّيّته}). فلم يتّضح لي وتطلّبت وجه ترتيب أسمائهم هذا التّرتيبَ، وموالاة بعض هذه الأسماء لبعض في العطف فلم يَبْدُ لي، وغالب ظنّي أنّ من هذه الوجوه كون هؤلاء معروفون لأهل الكتاب وللمشركين الّذين يقتبسون معرفة الأنبياء من أهل الكتاب، وأنّ المناسبة في ترتيبهم لا تخلو من أن تكون ناشئة عن الابتداء بذكر أنّ إسحاق ويعقوب موهبة لإبراهيم وهما أب وابنه، فنشأ الانتقال من واحد إلى آخر بمناسبة للانتقال، وأنّ توزيع أسمائهم على فواصل ثلاث لا يخلو عن مناسبة تجمع بين أصحاب تلك الأسماء في الفاصلة الشّاملة لأسمائهم. ويجوز أنّ خفّة أسماء هؤلاء في تعريبها إلى العربيّة حُروفاً ووزناً لها أثر في إيثارها بالذّكر دون غيرها من الأسماء نحو (شَمعون وشمويل وحزقيال ونحميا)، وأنّ المعدودين في هذه الآيات الثّلاث توزّعوا الفضائل إذ منهم الرّسل والأنبياء والملوك وأهل الأخلاق الجليلة العزيزة من الصّبر وجهاد النّفس والجهاد في سبيل الله والمصابرة لتبليغ التّوحيد والشّريعة ومكارم الأخلاق، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى في آخر الآيات {أولئك الّذين آتيناهم الكتاب والحكم والنّبوءة} [الأعراف: 89] ومن بينهم أصلاً الأمّتين العربيّة والإسرائيليّة. فلمّا ذكر إسحاق ويعقوب أردف ذكرُهما بذكر نبيئيْن من ذرّيّة إسحاق ويعقوب، وهما أب وابنه من الأنبياء هما داوود وسليمان مبتدءاً بهما على بقيّة ذرّيّة إسحاق ويعقوب، لأنّهما نالا مَجْدَين عظيمين مجدِ الآخرة بِالنّبوءة ومجد الدنيا بالملك. ثمّ أردف بذكر نبيئين تماثلاً في أنّ الضرّ أصاب كليهما وأنّ انفراج الكرب عنهما بصبرهما. وهما أيّوب ويوسف. ثمّ بذكر رسولين أخوين هما موسى وهارون، وقد أصاب موسى مثلُ ما أصاب يوسفَ من الكيد له لقتله ومن نجاته من ذلك وكفالته في بيت المُلك، فهؤلاء الستّة شملتهم الفاصلة الأولى المنتهية بقوله تعالى: {وكذلك نجزي المحسنين}. ثمّ بذكر نبيئين أب وابنه وهما زكرياء ويحيى. فناسبَ أن يذكر بعدهما رسولان لا ذرّيّة لهما، وهما عيسى وإلياس، وهما متماثلان في أنّهما رفعا إلى السّماء. فأمّا عيسى فرفْعه مذكور في القرآن، وأمّا إلياس فرفعه مذكور في كتب الإسرائليين ولم يذكره المفسّرون من السلف. وقد قيل: إنّ إلياس هو إدريس وعليه فرفعه مذكور في قوله تعالى: {واذكر في الكتاب إدريس إنّه كان صديقاً نبيئاً ورفعناه مكاناً علياً} في سورة مريم (56، 57). وابتدئ بعيسى عطفاً على يحيى لأنّهما قريبان ابنا خالة، ولأنّ عيسى رسول وإلياس نبيء غير رسول. وهؤلاء الأربعة تضمّنتهم الفاصلة الثّانية المنتهية بقوله تعالى: كلّ من الصّالحين}. وعُطف اليسع لأنّه خليفة إلياس وتلميذه، وأدمج بينه وبين إلياس إسماعيل تنهية بذكر النّبيء الّذي إليه ينتهي نسب العرب من ذرّيّة إبراهيم. وخُتوا بيونس ولوط لأنّ كلاً منهما أرسل إلى أمّة صغيرة. وهؤلاء الأربعة تضمّنتهم الفاصلة الثّالثة المنتهية بقوله: {وكلاً فضّلنا على العالمين}. وقوله: {ومن آبائهم} عطف على قوله: {كُلاً}. فالتَّقدير: وهدينا من آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم. وجعل صاحب «الكشاف» (مِن) اسما بمعنى بعض، أي وهدينا بعض آبائهم على طريقته في قوله تعالى: {من الَّذين هادوا يحرّفون} [النساء: 46]. وقدّر ابنُ عطيّة ومن تبعه المعطوف محذوفاً تقديره: ومن آبائهم جمعاً كثيراً أو مهديين كثيرين، فتكون (مِن) تبعيضية متعلّقة ب {هدينا}. والذرّيَّات جمع ذرّيَّة، وهي مَن تناسل من الآدمي من أبناء أدْنَيْن وأبنائهم فيشمل أولاد البنين وأولاد البنات. ووجه جمعه إرادة أنّ الهدى تعلّق بذرّيّة كلّ من له ذرّيّة من المذكورين للتنبيه على أنّ في هدي بعض الذرّية كرامة للجدّ، فكلّ واحد من هؤلاء مراد وقوعُ الهدي في ذرّيَّته. وإنْ كانت ذرّياتهم راجعين إلى جدّ واحد وهو نوح عليه السّلام. ثمّ إن كان المراد بالهدى المقدّر الهُدَى المماثل للهُدى المصرّح به، وهو هُدى النّبوءة، فالآباء يشمل مثل آدم وإدريس عليهم السلام فإنّهم آباء نوح.
{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} استئناف بياني، أي لا تعجبوا من هديهم وضلال غيرهم. والإشارة إلى الهُدى الّذي هو مصدر مأخوذ من أفعال الهداية الثلاثة المذكورة في الآية قبلها، وخصوصاً المذكور آخراً بقوله {وهديناهم إلى صراط مستقيم} [الأنعام: 87]. وقد زاد اسمُ الإشارة اهتماماً بشأن الهدي إذ جعل كالشيء المشاهد فزيد باسم الإشارة كمالُ تمييز، وأخبِر عن الهدي بأنّه هدى الله لتشريف أمره وبيان عصمته من الخطأ والضلال، وفيه تعريض بما عليه المشركون ممّا يزعمونه هدى ويتلقّونه عن كبرائهم، أمثاللِ عَمْرو بن لُحَيّ الذي وضع لهم عبادة الأصنام، ومثللِ الكهّان وأضرابهم. وقد جاء هذا الكلام على طريقة الفذلكة لأحوال الهداية الّتي تكرّر ذكرها كأبيات حاتم الطائي: وللّهِ صُعلوك يُساوِر هَمَّهُ *** ويمضي على الأحداث والدهرِ مُقدماً إلى أن قال بعد أبيات سبعة في محامد ذلك الصّعلوك: فذَلك إنْ يهلِكْ فحسنى ثَناؤه *** وإن عاش لم يقْعد ضعيفاً مذمَّماً وقوله تعالى: {يهدي به من يشاء من عباده} جملة في موضع الحال من {هُدى الله}. والمراد ب {من يشاء} الّذين اصطفاهم الله واجتباهم وهو أعلم بهم وباستعدادهم لهديه ونبذهم المكابرة وإقبالهم على طلب الخير وتطلّعهم إليه وتدرّجهم فيه إلى أن يبلغوا مرتبة إفاضة الله عليهم الوحيَ أو التّوفيق والإلهام الصادق. ففي قوله: {من يشاء} من الإبهام ما يبعث النّفوس على تطلّب هُدى الله تعالى والتّعرّض لنفحاته، وفيه تعريض بالمشركين الّذين أنكروا نبوءة محمّد صلى الله عليه وسلم حسداً، ولذلك أعقبه بقوله {ولو أشركوا لحَبِط عنهم ما كانوا يعملون} تفظيعاً لأمر الشرك وأنّه لا يغتفر لأحد ولو بلغ من فضائل الأعمال مبلغاً عظيماً مثل هؤلاء المعدودين المنوّه بهم. والواو للحال. و«حبط» معناه تلف، أي بطل ثوابه. وقد تقدّم في قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} في سورة [البقرة: 217].
{أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)} استئناف ابتدائي للتّنويه بهم، فهي فذلكة ثانية، لأنّ الفذلكة الأولى راجعة إلى ما في الجمل السابقة من الهدى وهذه راجعة إلى ما فيها من المهديّين. واسم الإشارة لزيادة الاعتناء بتمييزهم وإخطار سيرتهم في الأذهان. والمشار إليهم هم المعيَّنون بأسمائهم والمذكورون إجمالاً في قوله: {ومن آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم} [الأنعام: 87]. و{الّذين آتيناهم الكتاب} خبر عن اسم الإشارة. والمراد بالكتاب الجنس: أي الكتب. وإيتاء الكتاب يكون بإنزال ما يكتب، كما أنزل على الرسل وبعضضِ الأنبياء، وما أنزل عليهم يعتبر كتاباً، لأنّ شأنه أن يكتب سواء كتب أم لم يكتب. وقد نصّ القرآن على أنّ إبراهيم كانت له صُحُف بقوله: {صحف إبراهيم وموسى} [الأعلى: 19] وكان لعيسى كلامه الذي كتب في الإنجيل. ولداوود الكلام الصادر منه تبليغاً عن الله تعالى، وكان نبيئاً ولم يكن رسولاً، ولسليمان الأمثال، والجامعة، والنشيد المنسوب في ثلاثتها أحكامٌ أمر الله بها. ويقال: إنّ إدريس كتب الحكمة في صحف وهو الّذي يُسمّيه الإسرائليون (أخنوخ) ويدعوه القبط (توت) ويدعوه الحكماء (هُرْمس). ويكون إيتاء الكتاب بإيتاء الّنبيء فهْم ونبيِينَ الكتب المنزّلة قبله، كما أوتي أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى أمثال يحيى فقد قال تعالى له {يا يحيى خذ الكتاب بقوّة} [مريم: 12]. والحُكم هو الحكمة، أي العلم بطرق الخير ودفع الشرّ. قال تعالى في شأن يحيى {وآتيناه الحكم صبياً} [مريم: 12]، ولم يكن يحيى حاكماً أي قاضياً، وقد يفسّر الحكم بالقضاء بالحقّ كما في قوله تعالى في شأن داوود وسليمان {وكلاً آتينا حُكماً وعلماً} [الأنبياء: 79]. وإيتاء هذه الثلاث على التّوزيع، فمنهم من أوتي جميعها وهم الرسل منهم والأنبياء الّذين حكموا بين النّاس مثل داوود وسليمان، ومنهم من أوتي بعضَها وهم الأنبياء غير الرّسل والصّالحون منهم غير الأنبياء، وهذا باعتبار شمول اسم الإشارة لآبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم. والفاء في قوله: {فإن يكفر} عاطفة جملة الشّرط على جملة {أولئك الّذين آتيناهم الكتاب} عقّبت بجملة الشّرط وفرّعت عليها لأنّ الغرض من الجمل السابقة من قوله {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} [الأنعام: 74] هو تشويه أمر الشرك بالاستدلال على فساده بنبذ أهل الفضل والخير إيّاه، فكان للفاء العاطفة عقب ذلك موقع بديع من أحكام نظم الكلام. وضمير {بها} عائد إلى المذكورات: الكتاب والحكم والنّبوءة. والإشارة في قوله: {هؤلاء} إلى المشركين من أهل مكّة، وهي إشارة إلى حاضر في أذهان السّامعين، كما ورد في حديث سؤال القبر " فيقال له ما علمك بهذا الرجل " (يعني النّبيء صلى الله عليه وسلم. وفي «البخاري» قال الأحنف بن قيس: ذهبتُ لأنصر هذا الرجل (يعني عليّ بن أبي طالب). وقد تقصيت مواقع آي القرآن فوجدته يعبّر عن مشركي قريش كثيراً بكلمة (هؤلاء)، كقوله {بل متّعت هؤلاء وآباءهم} [الزخرف: 29] ولم أر من نبّه عليه من قبل. وكُفر المشركين بنبوءة أولئك الأنبياء تابع لكفرهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم ولذلك حكى الله عنهم بعْدُ أنّهم {قالوا ما أنزل الله على بشر مِن شيء} [الأنعام: 91]. ومعنى: {وكَّلْنا بها} وفّقْنا للإيمان بها ومراعاتها والقياممِ بحقّها. فالتّوكيل هنا استعارة، لأنّ حقيقة التّوكيل إسناد صاحب الشيء تدبيرَ شيئه إلى من يتولّى تدبيره ويكفيه كلفةَ حفظه ورعاية ما به بقاؤُه وصلاحُه ونماؤُه. يقال: وكَّلته على الشيء ووكَّلته بالشيء فيتعدّى بعلى وبالباء. وقد استعير في هذه الآية للتّوفيق إلى الإيمان بالنّبوءة والكتاب والحكم والنّظر في ما تدعو إليه ورعايته تشبيهاً لتلك الرّعاية برعاية الوكيل، وتشبيهاً للتّوفيق إليها بإسناد النّظر إلى الوكيل، لأنّ الوكالة تقتضي وُجود الشيء الموكّل بيد الوكيل مع حفظه ورعايته، فكانت استعارةُ {وكَّلنا} لهذا المعنى إيجازاً بديعاً يقابل ما يتضمّنه معنى الكفر بها من إنكارها الّذي فيه إضاعة حدودها. والقوم هم المؤمنون الّذين آمنوا برسالة محمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبمَن قبله من الرّسل وما جاءهم من الكتب والحكم والنّبوءة. والمقصود الأوّل منهم المؤمنون الّذين كانوا بمكّة ومن آمن من الأنصار بالمدينة إذ كانت هذه السّورة قد نزلت قُبيل الهجرة. وقد فسّر في «الكشاف» القوم بالأنبياء المتقدّم ذكرُهم وادّعى أنّ نظم الآية حمله عليه، وهو تكلّف لا حامل إليه. ووصفُ القوم بأنّهم {ليسوا بها بكافرين} للدّلالة على أنّهم سارعوا إلى الإيمان بها بمجرّد دعوتهم إلى ذلك فلذلك جيء في وصفهم بالجملة الإسميّة المؤلّفة من اسم (ليس) وخبرها لأنّ ليس بمنزلة حرف نفي إذ هي فعل غير متصرّف فجملتها تدلّ على دوام نفي الكفر عنهم، وأدخلت الباء في خبر (ليس) لتأكيد ذلك النّفي فصار دوامَ نفي مؤكّداً. والمعنى إنْ يكفر المشركون بنبوءتك ونبوءةِ مَن قبلك فلا يضرّك كفرهم لأنَّا قد وفّقنا قوماً مؤمنين للإيمان بك وبهم، فهذا تسلية للرّسول صلى الله عليه وسلم على إعراض بعض قومه عن دعوته. وتقديم المجرور على عامله في قوله {ليسوا بها بكافرين} لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بمعاد الضمير: الكتاب والحكم والنّبوءة.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} جملة ابتدائية قصد من استئنافها استقلالها للاهتمام بمضمونها، ولأنّها وقعت موقع التّكرير لمضمون الجملتين اللّتين قبلها: جملة {وهديناهم إلى صراط مستقيم} [الأنعام: 87] وجملة {أولئك الذّين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوءة} [الأنعام: 89]. وحقّ التكرير أن يكون مفصولاً، وليبنى عليها التّفريع في قوله: {فبهداهم اقتده}. والمشار إليهم باسم الإشارة هم المشار إليهم بقوله {أولئك الّذين آتيناهم الكتاب والحكم والنّبوءة} [الأنعام: 89] فإنّهم الّذين أمر نبيّنا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهداهم. وتكرير اسم الإشارة لتأكيد تمييز المشار إليه ولما يقتضيه التكرير من الاهتمام بالخبر. وأفاد تعريف المسند والمسند إليه قصر جنس الّذين هداهم الله على المذكورين تفصيلاً وإجمالاً، لأنّ المهديين من البشر لا يعدون أن يكونوا أولئك المسمّين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، فإنّ من آبائهم آدم وهو الأب الجامع للبشر كلّهم، فأريد بالهدى هدى البشر، أي الصرف عن الضلالة، فالقصر حقيقي. ولا نظر لصلاح الملائكة لأنّه صلاح جبليّ. وعدل عن ضمير المتكلّم إلى اسم الجلالة الظاهر لقَرْن هذا الخبر بالمهابة والجلالة. وقوله: {فبهداهم اقتده} تفريع على كمال ذلك الهُدَى، وتخلُّص إلى ذكر حظّ محمدّ صلى الله عليه وسلم من هُدى الله بعد أن قُدّم قبله مُسْهَبُ ذكر الأنبياء وهديهم إشارة إلى علوّ منزلة محمّد صلى الله عليه وسلم وأنّها منزلة جديدة بالتّخصيص بالذكر حيث لم يذكر مع الأنبياء المتقدّمين، وأنّه جمَعَ هُدى الأوّلين، وأكملت له الفضائل، وجُمع له ما تفرّق من الخصائص والمزايا العظيمة. وفي إفراده بالذكر وترك عدّه مع الأوّلين رمز بديع إلى فذاذته وتفرّد مقداره، ورَعْي بديع لحال مجيء رسالته بعد مرور تلك العصور المتباعدة أو المتجاورة، ولذلك قُدّم المجرور وهو {بهداهم} على عامله، للاهتمام بذلك الهدى لأنّه هو منزلتك الجامعة للفضائل والمزايا، فلا يليق به الاقتداء بهُدى هو دون هُداهم. ولأجل هذا لم يسبق للنّبيء صلى الله عليه وسلم اقتداء بأحد ممّن تحنّفوا في الجاهليّة أو تنصَّروا أو تهوّدوا. فقد لقي النّبيء صلى الله عليه وسلم زيدَ بن عَمْرو بن نُفَيْللٍ قبل النّبوءة في بَلْدَح وعَرض عليه أن يأكل معه من سُفْرته، فقال زيد «{إنِّي لا آكل ممّا تذبحون على أنصابكم توهّماً منه أنّ النبي يدين بدين الجاهليّة، وألهم الله محمّداً السكوت عن إجابته إلهاماً لحفظ السِرّ المدَّخر فلم يقل له إنّي لا أذبح على نُصُب. ولقي ورقةَ بن نوفل غير مرّة بمكّة. ولَقِي بَحيرا الرّاهبَ. ولم يقتد بأحد من أولئك وبقي على الفطرة إلى أن جاءته الرّسالة. والاقتداء افتعال من القُدوةَ بضمّ القاف وكسرها وقياسه على الإسوة يقتضي أنّ الكسر فيه أشهر. وقال في المصباح}: الضمّ أكثر. ووقع في «المقامات» للحريري «وقدوة الشحَّاذين» فضُبط بالضمّ. وذكره الواسطي في إشرح ألفاظ المقامات» في القاف المضمومة، وروى فيه فتح القاف أيضاً، وهو نادر. والقدوة هو الّذي يَعمل غيرُه مثل عمله، ولا يعرف له في اللّغة فعل مجرّد فلم يسمع إلاّ اقتدى. وكأنّهم اعتبروا القدوة اسماً جامداً واشتقّوا منه الافتعال للدّلالة على التّكلّف كما اشتقّوا من اسم الخريف اخترف، ومن الأسوة ائْتسى، وكما اشتقّوا من اسم النمر تَنَمَّر، ومن الحجَر تحجَّر. وقد تستعمل القدوة اسم مصدر لاقتدى. يقال: لي في فلان قُدوة كما في قوله تعالى: {لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة} [الممتحنة: 6]. وفي قوله: {فبهداهم اقتده} تعريض للمشركين بأنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم ما جاء إلاّ على سنّة الرّسل كلّهم وأنّه ما كان بدعاً من الرّسل. وأمْرُ النّبيء صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهُداهم يؤذن بأنّ الله زوى إليه كلّ فضيلة من فضائلهم الّتي اختصّ كلّ واحد بها سواء ما اتّفق منه واتّحد، أو اختلف وافترق، فإنّما يقتدي بما أطلعه الله عليه من فضائل الرّسل وسيرهم، وهو الخُلُق الموصوف بالعظيم في قوله تعالى: {وإنّك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4]. ويشمل هداهم ما كان منه راجعاً إلى أصول الشّرائع، وما كان منه راجعاً إلى زكاء النّفس وحسن الخُلق. وأمّا مَا كان منه تفاريع عن ذلك وأحكاماً جزئيّة من كلّ ما أبلغه الله إيّاه بالوحي ولم يأمره باتّباعه في الإسلام ولا بيّن له نسخه، فقد اختلف علماؤنا في أنّ الشّرائع الإلهيّة السّابقة هل تعتبر أحكامها من شريعة الإسلام إذا أبلغها الله إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولم يجعل في شريعته ما ينسخها. وأرى أنّ أصل الاستدلال لهذا أنّ الله تعالى إذا ذكر في كتابه أو أوحى إلى رسوله عليه الصلاة والسلام حكاية حكم من الشرائع السابقة في مقام التّنويه بذلك والامتنان ولم يقارنه ما يدلّ على أنّه شُرِع للتّشديد على أصحابه عقوبة لهم، ولا ما يدلّ على عدم العمل به، فإنّ ذلك يدلّ على أنّ الله تعالى يريد من المسلمين العمل بمثله إذا لم يكن من أحكام الإسلام ما يخالفه ولا من أصوله ما يأباه، مثل أصل التّيسير ولا يقتضي القياسُ على حكم إسلامي ما يناقض حكماً من شرائع مَن قَبلنا. ولا حجّة في الآيات الّتي فيها أمرُ النّبيء صلى الله عليه وسلم باتّباع مَن قبله مثل هذه الآية، ومثل قوله تعالى: {ثمّ أوحينا إليك أن اتّبِعْ ملّة إبراهيم حنيفاً} [النحل: 123] ومثل قوله تعالى: {شَرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى} [الشورى: 13]، لأنّ المقصود من ذلك أصول الدّيانة وأسس التّشريع الّتي لا تختلف فيها الشّرائع، فمن استدلّ بقوله تعالى: {فبهداهم اقتده} فاستدلاله ضعيف. قال الغزالي في «المستصفى» «أراد بالهُدى التّوحيد ودلالةَ الأدلّة العقليّة على الوحدانيّة والصّفات لأنّه تعالى أمره بالاقتداء بهداهم فلو كان المراد بالهدى شرائعهم لكان أمراً بشرائع مختلفة وناسخة ومنسوخة فدلّ أنّه أراد الهدى المشترك بين جميعهم» اه. ومعنى هذا أنّ الآية لا تقوم حجّة على المخالف فلا مانع من أن يكون فيها استئناس لمن رأى حجّيّة شرع من قبلنا على الصّفات الّتي ذكرتُها آنفاً. وفي «صحيح البخاري» في تفسير سورة (ص) عن العَوّام قال: سألت مجاهداً عن سجدة ص فقال: سألت ابن عبّاس من أين سجدتَ (أي من أيّ دليل أخذت أن تسجد في هذه الآية، يريد أنّها حكاية عن سجود داوود وليس فيها صيغة أمر بالسجود) فقال: «أوَمَا تقرأ {أولئك الّذين هدى الله فبهداهم اقتده} فكان داوود ممّن أمر نبيئُكم أن يقتدِي به فسجدها داوود فسجدها رسول الله». والمذاهب في هذه المسألة أربعة: المذهب الأوّل: مذهب مالك فيما حكاه ابن بكير وعبدُ الوهّاب والقرافي ونسبوه إلى أكثر أصحاب مالك: أنّ شرائع من قبلنا تكون أحكاماً لنا، لأنّ الله أبلغها إلينا. والحجّة على ذلك ما ثبت في الصحاح من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية الرُّبَيْععِ بنتتِ النضر حين كسَرَتْ ثنيّة جاريةٍ عمداً أنْ تُكْسر ثنيّتها فراجعتْه أمّها وقالت: واللّهِ لا تُكْسَر ثنيّةُ الرّبيع فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " كتابُ الله القصاص "، وليس في كتاب الله حكم القصاص في السنّ إلاّ ما حكاه عن شرع التّوراة بقوله {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس إلى قوله والسنّ بالسنّ} [المائدة: 45]. وما في «الموطأ» أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من نسي الصلاة فليصلّها إذا ذكرها فإنّ الله تعالى يقول في كتابه: {أقِمْ الصّلاة لذِكْري} [طه: 14] وإنّما قاله الله حكاية عن خِطابه لموسى عليه السلام، وبظاهر هذه الآية لأنّ الهدى مصدر مضاف فظاهره العموم، ولا يُسلّم كونُ السياق مخصّصاً له كما ذهب إليه الغزالي. ونقل علماء المالكية عن أصحاب أبي حنيفة مثلَ هذا. وكذلك نقل عنهم ابنُ حزم في كتابه «الإعراب في الحيرَة والالتباس الواقعين في مذاهب أهل الرأي والقياس». وفي «توضيح» صدر الشريعة حكايتُه عن جماعة من أصحابهم ولم يُعيّنه. ونقله القرطبي عن كثير من أصحاب الشافعي. وهو منقول في كتب الحنفيّة عن عامّة أصحاب الشّافعي. المذهب الثّاني: ذهب أكثر الشّافعيّة والظاهرية: أنّ شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا. واحتجّوا بقوله تعالى: {لكُللٍ جعلنا منكم شِرْعَةً ومنهاجاً} [المائدة: 48]. ونسب القرطبي هذا القول للكثير من أصحاب مالك وأصحاب الشّافعي. وفي «توضيح» صدر الشّريعة نسبة مثل هذا القول لجماعة من أصحابهم. الثالث: إنّما يلزم الاقتداء بشرع إبراهيم عليه السلام لقوله تعالى: {ثمّ أوحينا إليك أن اتَّبِعْ ملّة إبراهيم حَنيفاً} [النحل: 123]. ولم أقف على تعيين من نسب إليه هذا القول. الرّابع: لا يلزم إلاّ اتّباع شريعة عيسى لأنّها آخر الشّرائع نَسخت ما قبلها. ولم أقف على تعيين صاحب هذا القول. قال ابن رشد في «المقدّمات»: وهذا أضعف الأقوال. والهاء في قوله: {اقتده} ساكنة عند جمهور القرّاء، فهي هاء السكت الّتي تُجلب عند الوقف على الفعل المعتلّ اللاّم إذا حذفت لامَه للجازم، وهي تثبت في الوقف وتحذف في الوصل، وقد ثبتت في المصحف لأنّهم كانوا يكتبون أواخر الكلم على مراعاة حال الوقف. وقد أثبتها جمهور القرّاء في الوصل، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف وهو وارد في الكلام الفصيح. والأحسن للقارئ أن يقف عليها جرياً على الأفصح، فجمهور القرّاء أثبتوها ساكنة ما عدا رواية هشام عن ابن عامر فقد حرّكها بالكسر، ووجَّه أبو عليّ الفارسي هذه القراءة بأنّها تجعل الهاء ضمير مصدر «اقْتد»، أي اقتد الاقتداء، وليست هاء السكت، فهي كالهاء في قوله تعالى: {عذاباً لا أعذّبُه أحداً من العالمين} [المائدة: 115] أي لا أعذّب ذلك العذاب أحداً. وقرأ حمزة، والكسائي، وخَلف، بحذف الهاء في حالة الوصل على القياس الغالب. {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى للعالمين}. استئناف عُقّب به ذلك البيانُ العظيم الجامع لأحوال كثير من الأمم. والإيماءُ إلى نبوءة جمع من الأنبياء والصّالحين، وبيان طريقة الجدل في تأييد الدّين، وأنّه ما جاء إلاّ كما جاءت مِلل تلك الرّسل، فلذلك ذيَّله الله بأمر رسوله أن يُذكِّر قومه بأنّه يذكِّرُهم. كما ذكَّرتْ الرّسلُ أقوامهم، وأنّه ما جاء إلاّ بالنّصح لهم كما جاءت الرّسل. وافتتح الكلام بفعل {قل} للتّنبيه على أهميّته كما تقدّم في هذه السّورة غير مرّة. وقُدّم ذلك بقوله: {لا أسألكم عليه أجراً} أي لست طالبَ نفع لنفسي على إبلاغ القرآن، ليكون ذلك تنبيهاً للاستدلال على صدقه لأنّه لو كان يريد لنفسه نفعاً لصانعهم ووافقهم. قال في «الكشاف» في سورة هود (51) عند قوله تعالى حكاية من هود {يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إنْ أجريَ إلاّ على الّذي فطَرنيَ أفَلا تعقلون} ما من رسول إلاّ واجه قومه بهذا القول لأنّ شأنهم النّصيحة والنّصيحة لا يمحّصها ولا يمحِّضُها إلاّ حَسم المطامع وما دام يتوهّم شيء منها لم تنفع ولم تنجع اه. قلت: وحكى الله عن نوح مثل هذا في قوله في سورة [هود: 29] {ويَا قوم لا أسألكم عليه مَالاً إنْ أجريَ إلاّ على الله} وقال لرسوله أيضاً في سورة [الشّورى: 23] {قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى. فليس المقصود من قوله: لا أسألكم عليه أجراً} ردّ اعتقاد معتقد أو نفي تهمة قيلت ولكن المقصود به الاعتبار ولفت النّظر إلى محض نصح الرّسول صلى الله عليه وسلم في رسالته وأنّها لنفع النّاس لا يجرّ منها نفعاً إلى نفسه. والضمير في قوله: {عليه} وقوله: {إن هو} راجع إلى معروف في الأذهان؛ فإنّ معرفة المقصود من الضمير مغنية عن ذكر المعاد مثل قوله تعالى: {حتّى توارتْ بالحجاب} [ص: 32]، وكما في حديث عُمر في خبر إيلاء النّبيء صلى الله عليه وسلم «فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فضرب بأبي ضرباً شديداً فقال: أثمّ هو» ألخ. والتّقدير: لا أسألكم على التّبليغ أو الدّعاء أجراً وما دعائي وتبليغي إلاّ ذِكْرى بالقرآن وغيره من الأقوال. والذّكرى اسم مصدر الذِكر بالكسر، وهو ضدّ النّسيان، وتقدّم آنفاً. والمُراد بها هنا ذكر التّوحيد والبعث والثّواب والعقاب. وجَعَل الدّعوة ذكرى للعالمين، لأنّ دعوته صلى الله عليه وسلم عامّة لسائر النّاس. وقد أشعر هذا بأنّ انتفاء سؤال الأجر عليه لسببين: أحدهما: أنّه ذِكرى لهم ونصح لنفعهم فليس محتاجاً لِجَزاءٍ منهم، ثانيهما: أنّه ذكرى لغيرهم من النّاس وليس خاصّاً بهم.
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)} وجود واو العطف في صدر هذه الجملة ينادي على أنّها نزلت متناسقة مع الجمل الّتي قبلها، وأنّها وإيّاها واردتان في غرض واحد هو إبطال مزاعم المشركين، فهذا عطف على جملة {فإن يكفر بها هؤلاء} [الأنعام: 89]، وأنّها ليست ابتدائيّة في غرض آخر. فواو الضّمير في قوله {قدروا} عائد على ما عاد إليه اسم الإشارة في قوله: {هؤلاء} [الأنعام: 89] كما علمت آنفاً. ذلك أنّ المشركين لمّا استشعروا نهوض الحجّة عليهم في نزول القرآن بأنّه ليس بِدعاً ممّا نزل على الرّسل، ودحضَ قولهم: {لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً} [الفرقان: 7] توغّلوا في المكابرة والجحود فقالوا {ما أنزل الله على بشر من شيء} وتجاهلوا ما كانوا يقولونه عن إبراهيم عليه السّلام وما يعلمونه من رسالة موسى عليه السلام وكتابه. فروى الطبري عن ابن عبّاس ومجاهد: أنّ قائل ذلك هم المشركون من قريش. وقد جاءت هذه الآية في هذا الموقع كالنتيجة لما قبلها من ذكر الأنبياء وما جاءوا به من الهدى والشّرائع والكتب، فلا جرم أنّ الّذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، قد جاءوا إفكاً وزوراً وأنكروا ما هو معلوم في أجيال البشر بالتّواتر. وهذه الجملة مثل ما حكاه الله عنهم في قوله: {وقال الّذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالّذي بين يديه} [سبأ: 31]. ومن أئمّة التّفسير من جعل هذا حكاية لقول بعض اليهود، واختلفوا في أنّه معيّن أو غير معيّن، فعن ابن عبّاس أيضاً، وسعيد بن جبير، والحسن، والسديّ: أنّ قائل {ما أنزل الله على بشر من شيء} بعض اليهود وروي عن سعيد بن جبير وعكرمة أنّ قائل ذلك مالك بن الصيف القُرظي وكان من أحبار اليهود بالمدينة، وكان سميناً وأنّه جاء يخاصم النّبيء صلى الله عليه وسلم فقال له النّبيء «أنشدك بالّذي أنزل التّوراة على موسى أمَا تجد في التّوراة أنّ الله يبغض الحَبر السمين» فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. وعن السُدّي: أنّ قائله فِنْحاص اليهودي. ومحمل ذلك كلّه على أنّ قائل ذلك منهم قاله جهلاً بما في كتبهم فهو من عامّتهم، أو قاله لجاجاً وعِناداً. وأحسب أنّ هذه الرّوايات هي الّتي ألجأت رواتها إلى ادّعاء أنّ هذه الآيات نزلت بالمدينة، كما تقدّم في الكلام على أوّل هذه السورة. وعليه يكون وقع هذه الآيات في هذا الموقع لمناسبة قوله: {أولئك الّذين آتيناهم الكتاب} [الأنعام: 89] الآية، وتكون الجملة كالمعترضة في خلال إبطال حجاج المشركين. وحقيقة {قدروا} عيَّنوا القَدْر وضَبطوه أي، عَلّموه عِلماً عن تحقّق. والقَدْر بفتح فسكون مقياسُ الشيء وضابطه، ويستعمل مجازاً في عِلم الأمر بكُنهه وفي تدبير الأمر. يقال: قَدَر القومُ أمرهم يقدُرونه بضمّ الدّالّ في المضارع، أي ضبطوه ودبَّروه. وفي الحديث قول عائشة: «فاقدُروا قدْرَ الجاريةِ الحديثة السنّ» وهو هنا مجاز في العلم الصّحيح، أي ما عرفوا الله حقّ معرفته وما علموا شأنه وتصرّفاته حقّ العلم بها، فانتصب {حقّ} على النّيابة عن المفعول المطلق لإضافته إلى المصدر وهو {قَدْرِه}، والإضافة هنا من إضافة الصّفة إلى الموصوف. والأصل: ما قدروا الله قَدْرَه الحَقّ. و {إذ قالوا} ظرف، أي ما قدروه حين قالوا {ما أنزل الله} لأنّهم لمّا نفوا شأناً عظيماً من شؤون الله، وهو شأن هديه النّاس وإبلاغهم مرادَه بواسطة الرّسل، قد جهلوا ما يفضي إلى الجهل بصفة من صفات الله تعالى الّتي هي صفة الكلام، وجهلوا رحمته للنّاس ولطفه بهم. ومقالهم هذا يعمّ جميعَ البشر لوقوع النكرة في سياق النّفي لِنفي الجنس، ويَعمّ جميعَ ما أنزل باقترانه ب {منْ} في حيز النّفي للدّلالة على استغراق الجنس أيضاً، ويعمّ إنزالَ الله تعالى الوحيَ على البشر بنفي المتعلِّق بهذين العمومين. والمراد ب {شيء} هنا شيء من الوحي، ولذلك أمر الله نبيّه بأن يُفْحمهم باستفهاممِ تقريرٍ وإلجاءٍ بقوله: {مَن أنزل الكتاب الّذي جاء به موسى} فذكَّرهم بأمر لا يستطيعون جحده لتواتره في بلاد العرب، وهو رسالة موسى ومجيئه بالتّوراة وهي تدرس بين اليهود في البلد المجاور مكّة، واليهودُ يتردّدون على مكّة في التّجارة وغيرها، وأهل مكّة يتردّدون على يثرب وما حولها وفيها اليهود وأحبارهم، وبهذا لم يذكِّرهم الله برسالة إبراهيم عليه السّلام لأنّهم كانوا يجهلون أنّ الله أنزل عليه صُحفاً فكان قد يتطرّقه اختلاف في كيفية رسالته ونبوءته. وإذا كان ذلك لا يسع إنكاره كما اقتضاه الجواب آخِرَ الآية بقوله: {قل الله} فقد ثبت أنّ الله أنزل على أحدٍ من البشر كتاباً فانتقض قولهم: {ما أنزل الله على بشر من شيء} على حسب قاعدة نقض السالبة الكليّة بموجبة جزئيّة. وافتتح بالأمر بالقول للاهتمام بهذا الإفحام، وإلاّ فإنّ القرآن كلّه مأمور النّبيء صلى الله عليه وسلم بأن يقوله. والنّور: استعارة للوضوح والحقّ، فإنّ الحقّ يشبّه بالنّور، كما يشبّه الباطل بالظلمة. قال أبو القاسم عليّ التنّوخي: وكأنّ النّجومَ بين دُجاها *** سُنَن لاَحَ بينهنّ ابتِدَاعُ ولذلك عطف عليه {هدى}. ونظيره قوله في سورة المائدة (44) {إنّا أنزلنا التّوراة فيها هُدَى ونور. ولو أطلق النّور على سبب الهدى لصحّ لولا هذا العطف، كما قال تعالى عن القرآن ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52]. وقد انتصب {نوراً} على الحال. والمراد بالنّاس اليهود، أي ليهديهم، فالتّعريف فيه للاستغراق، إلاّ أنّه استغراق عرفي، أي النّاس الّذين هم قومه بنو إسرائيل. وقوله: {تجعلونه قراطيس} يجوز أن يكون صفة سببيّة للكتاب، ويجوز أن يكون مُعترضاً بين المتعاطفات. قرأ {تجعلونه وتبدون وتخفون} بتاء الخطاب مَن عدا ابنَ كثير، وأبَا عمرو، ويعقوب، من العشرة، فإمّا أن يكون الخطاب لغير المشركين إذ الظاهر أن ليس لهم عمل في الكتاب الذي أنزل على موسى ولا باشروا إبداء بعضه وإخفاء بعضه فتعيّن أن يكون خطاباً لليهود على طريقة الإدماج (أي الخروج من خطاب إلى غيره) تعريضاً باليهود وإسماعاً لهم وإن لم يكونوا حاضرين من باب إياكَ أعنِي واسمَعي يا جارة، أو هو التفات من طريق الغيبة الّذي هو مقتضى المقام إلى طريق الخطاب. وحقّه أن يقال يجعلونه بياء المضارع للغائب كما قرأ غير هؤلاء الثّلاثة القرّاء. وإمّا أن يكون خطاباً للمشركين. ومعنى كونهم يجعلون كتابَ موسى قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها أنّهم سألوا اليهود عن نبوءة محمّد صلى الله عليه وسلم فقرأوا لهم ما في التّوراة من التمسّك بالسبتتِ، أي دين اليهود، وكتموا ذكر الرّسول صلى الله عليه وسلم الّذي يأتي من بعدُ، فأسند الإخفاء والإبداءُ إلى المشركين مجازاً لأنّهم كانوا مظهراً من مظاهر ذلك الإخفاء والإبداء. ولعلّ ذلك صدر من اليهود بعد أن دخل الإسلام المدينة وأسلم مَن أسلم من الأوس والخزرج، فعلم اليهود وبال عاقبة ذلك عليهم فأغروا المشركين بما يزيدهم تصميماً على المعارضة. وقد قدّمتُ ما يرجّح أنّ سورة الأنعام نزلت في آخر مدّة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة، وذلك يوجب ظننّا بأنّ هذه المدّة كانت مبدأ مداخلة اليهود لقريش في مقاومة الدّعوة الإسلاميّة بمكّة حين بلغت إلى المدينة. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب {يجعلونه، ويُبدونها، ويخفون} بالتحتيّة فتكون ضمائرُ الغيبة عائدة إلى معروف عند المتكلّم، وهم يهود الزّمان الّذين عُرفوا بذلك. والقراطيس جمع قرطاس. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {ولو نزّلنا عليك كتاباً في قرطاس} في هذه السّورة [7]. وهو الصحيفة من أي شيء كانت من رَقّ أو كَاغِد أو خرقة. أي تجعلون الكتاب الّذي أنزل على موسى أوراقاً متفرّقة قصداً لإظهار بعضها وإخفاء بعض آخر. وقوله: تبدونها وتخفون كثيراً} صفة لقراطيس، أي تبدون بعضها وتخفون كثيراً منها، ففهم أنّ المعنى تجعلونه قراطيس لغرض إبداء بعض وإخفاء بعض. وهذه الصّفة في محلّ الذمّ فإنّ الله أنزل كتبه للهُدى، والهدى بها متوقّف على إظهارها وإعلانها، فمن فرّقها ليظهر بعضاً ويخفي بعضاً فقد خالف مراد الله منها. فأمّا لو جعلوه قراطيس لغير هذا المقصد لما كان فعلهم مذموماً، كما كتب المسلمون القرآن في أجزاء منفصلة لقصد الاستعانة على القراءة، وكذلك كتابة الألواح في الكتاتيب لمصلحة. وفي «جامع العُتبية» في سماع ابن القاسم عن مالك {سُئل مالك رحمه الله عن القرآن يُكتب أسداساً وأسباعاً في المصاحف، فكره ذلك كراهيةً شديدة وعابها وقال لا يفرّق القرآن وقد جمعه الله وهؤلاء يفرّقونه ولا أرى ذلك اه. قال ابن رشد في البيان والتّحصيل}: القرآن أنزل إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم شيئاً بعد شيء حتّى كَمُل واجتمع جملة واحدة فوجب أن يحافظ على كونه مجموعاً، فهذا وجه كراهيّة مالك لتفريقه اه. قلْت: ولعلّه إنّما كره ذلك خشية أن يكون ذلك ذريعة إلى تفرّق أجزاء المصحف الواحد فيقع بعضها في يد بعض المسلمين فيظنّ أنّ ذلك الجزء هو القرآن كلّه، ومعنى قول مالك: وقد جمعه الله، أنّ الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بجمعه بعد أن نزل منجّماً، فدلّ ذلك على أنّ الله أراد جمعه فلا يفرّق أجزاء. وقد أجاز فقهاء المذهب تجْزئة القرآن للتعلّم ومسّ جزئه على غير وضوء، ومنه كتابته في الألواح. وقوله: {وعُلّمتم ما لم تعلموا} في موضع الحال من كلام مقدّر دلّ عليه قوّة الاستفهام لأنّه في قوّة أخبروني، فإنّ الاستفهام يتضمّن معنى الفعل. ووقوع الاستفهام بالاسم الدّال على طلب تعيين فاعل الإنزالَ يقوّي معنى الفعل في الاستفهام إذ تضمّن اسم الاستفهام فعلاً وفاعلاً مستفهماً عنهما، أي أخبروني عن ذلك وقَد علّمكم الله بالقرآن الّذي أنكرتم كونه من عند الله، احتججتم على إنكار ذلك بنفي أن ينزل الله على بشر شيئاً، ولو أنصفتم لوجدتم وإمارة نزوله من عند الله ثابتة فيه غير محتاج معها للاستدلال عليه. وهذا الخطاب أشدّ انطباقاً على المشركين لأنّهم لم يكونوا عالمين بأخبار الأنبياء وأحوال التّشريع ونظامه فلمّا جاءهم محمّد عليه الصّلاة والسّلام عَلم ذلك من آمَن علماً راسخاً، وعلم ذلك من بقي على كفره بما يحصل لهم من سماع القرآن عند الدّعوة ومن مخالطيهم من المسلمين، وقد وصفهم الله بمثل هذا في آيات أخرى، كقوله تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحِيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} [هود: 49]. ويجوز أن تكون جملة: {وعُلّمتم} عطفاً على جملة: {أنْزَل الكتاب} على اعتبار المعنى كأنّه قيل: وعلّمكم ما لم تعلموا. ووجه بناء فعل {عُلّمتم} للمجهول ظهور الفاعل، ولأنّه سيقول {قُل الله}. فإذا تأوّلنا الآية بما روي من قصّة مالك بن الصّيف المتقدّمة فالاستفهام بقوله {مَن أنزل الكتاب} تقريري، إمّا لإبطال ظاهر كلامهم من جحد تنزيل كتاب على بشر، على طريقة إفحام المناظر بإبداء ما في كلامه من لوازم الفساد، مثل فساد اطّراد التّعريف أو انعكاسه، وإمّا لإبطال مقصودهم من إنكار رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم بطريقة الإلزام لأنّهم أظهروا أنّ رسالة محمّد عليه الصلاة والسلام كالشيء المحال فقيل لهم على سبيل التّقرير {من أنزل الكتاب الّذي جاء به موسى} ولا يسعهم إلاّ أن يقولوا: الله، فإذا اعترفوا بذلك فالّذي أنزل على موسى كتاباً لم لا ينزل على محمّد مِثله، كما قال تعالى: {أم يحسدون النّاس على ما آتاهم الله من فضله} [النساء: 54] الآية. ثمّ على هذا القول تكون قراءة: {تجعلونه قراطيس} بالفوقيّة جارية على الظاهر، وقراءتُه بالتّحتيّة من قبيل الالتفات. ونكتته أنّهم لمّا أخبر عنهم بهذا الفعل الشّنيع جُعلوا كالغائبين عن مقام الخطاب. والمخاطب بقوله: {وعُلّمتم} على هذا الوجه هم اليهود، فتكون الجملة حالاً من ضمير {تجعلونه}، أي تجعلونه قراطيس تخفون بعضها في حال أنّ الله علّمكم على لسان محمّد ما لم تكونوا تعلمون، ويكون ذلك من تمام الكلام المعترض به. ويجيء على قراءة {يجعلونه قراطيس} بالتّحتيّة أن يكون الرّجوع إلى الخطاب بعد الغيبة التفاتاً أيضاً. وحسّنه أنّه لمّا أخبر عنهم بشيء حَسن عَادَ إلى مقام الخطاب، أو لأنّ مقام الخطاب أنسب بالامتنان. واعلم أنّ نظم الآية صالح للردّ على كلا الفريقين مراعاة لمقتضى الروايتين. فعلى الرّواية الأولى فواو الجماعة في «قدروا وقالوا» عائدة إلى ما عاد إليه إشارة هؤلاء، وعلى الرّواية الثّانية فالواو واو الجماعة مستعملة في واحد معيّن على طريقة التّعريض بشخص من باب " مَا بالُ أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله "، وذلك من قبيل عود الضّمير على غير مذكور اعتماداً على أنّه مستحضر في ذهن السامع. وقوله: {قل الله} جواب الاستفهام التّقريري. وقد تولّى السائل الجواب لنفسه بنفسه لأنّ المسؤول لا يسعه إلاّ أن يجيب بذلك لأنّه لا يقدر أن يكابر، على ما قرّرتُه في تفسير قوله تعالى: {قل لمن ما في السّماوات والأرض قل لله} في هذه السّورة [12]. والمعنى قل الله أنزل الكتاب على موسى. وإذا كان وعُلّمتم ما لم تعلموا} معطوفاً على جملة {أنزل} كان الجواب شاملاً له، أي الله علّمكم ما لم تعلموا فيكون جواباً عن الفعل المسند إلى المجهول بفعل مسند إلى المعلوم على حدّ قول ضرار بن نهشل أو الحارث النهشلي يرثي أخاه يزيد: ليُبْكَ يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط ممّا تُطيح الطَّوائح كأنّه سئل من يَبكيه فقال: ضارع. وعطف {ثمّ ذرّهم في خوضهم يلعبون} بثمّ للدّلالة على التّرتيب الرتبي، أي أنّهم لا تنجع فيهم الحجج والأدلّة فَتَرْكُهم وخَوْضهم بعد التّبليغ هو الأولى ولكن الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم. وقوله: {في خوضهم} متعلّق ب {ذرهم}. وجملة {يلعبون} حال من ضمير الجمع. وتقدّم القول في «ذر» في قوله تعالى: {وذر الّذين اتّخذوا دينهم} [الأنعام: 70]. والخوض تقدّم في قوله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} [الأنعام: 68]. واللّعب تقدّم في {وذر الّذين اتّخذوا دينهم لعباً} في هذه السّورة [70].
|